قديسين لا نعرفهم ....
سوف انقل لكم سيرة عطرة للعديد من القديسين والشهداء الأبرار الذي كثير منا لا يعرفهم
تابع معي لنأخذ بركتهم وشفاعتهم لأنهم نجوم في السماء
القديسة ديونيزيا
وفي زمان الاضطهاد الذي أثاره ديسيوس ، وفي سنة 250 في مدينة تراوس بآسيا
الصغرى ، قدم للوالي ثلاثة من المسيحيين ، كان أكبرهم شخص يدعى نيكوماكس
فأعترف بإيمانه في بادئ الأمر ورفض أن يقدم قربانا للآلهة ، فبدأوا يعذبونه
، فلما برح به الآم صاح "إنني مخطئ ، ما كنت مسيحيا قط ، سوف أقدم
القرابين للآلهة" وأنزل من آلة التعذيب ، ولم يكد يضع لحم الضحية على شفتيه
حتى قضى نحبه ، ومات جاحدا .
وكانت هناك فتاة في نحو السادسة عشر تدعى ديونيزيا ، وكانت الفتاة مسيحية ،
وإذ روعها هذا المنظر صاحت " أيها البائس المسكين ، من أجل لحظة قصيرة ،
نلت ألاماً أبدية لا توصف" ، فسيقت أما الوالي ولما سألها عما إذا كانت
مسيحية ، أجابت "نعم ، ولهذا فقد تملكني الأسى على ذلك المسكين الذي لم
يستطع أن يتحمل قليلاً فيجد راحة أبدية" ، فأمرها أن تحذو حذوه ، وإلا
فإنها ستعذب ثم تحرق حية .
وفي اليوم التالي جئ بأندراوس وبولس – رفيقي نيكومكس ، أمام القاضي ، ورأي
الوالي أن يسلمهما للجمهور ليرجمهما حتى الموت ، فأوثقت أقدامهما معا وأخذا
خارج المدينة ، وحدث أن رأتهما ديونيزيا – وكانت في طريقها إلى حيث تتلقى
الحكم النهائي عليها ، فأفلتت من حارسها وألقت بنفسها على اندراوس وبولس
قائلة " فلأمت معكما على الأرض ، حتى أحيا معكما في السماء" ولم يشأ الوالي
أن يجيبها إلى ما طلبت وأمر بأن تبتر رأسها .
يعقوب الصبي الشهيد
وُلد هذا القديس في أمجوج من أبوين مسيحيين خائفين الرب، وقد رزقهما الله
ثلاث بنات قبل هذا القديس، فأدخلهن دير راهبات ليتعلمن ويتربين في خوف
الرب، فتعلمن وقرأن الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة. لما طلب أبيهن عودتهن
لم يوافقنّه وبقين في ذلك الدير وقدمن أنفسهن للمسيح. فحزن الوالدان كثيرًا
غير أن الله قد عزاهما بأن رزقهما بهذا القديس ففرحا به فرحًا عظيمًا،
ولما بلغ السادسة من عمره أرسله أبوه إلى أبسو حيث تلقى مبادئ التعليم
القراءة والكتابة، ولما تعلمها عيّنه أبوه مشرفًا على ماله. نشأته كان عند
أبيه شيخ يرعى غنمه، وكان زاهدًا تقيًا يجاهد كثيرًا في اقتناء الفضائل،
وكان يعقوب يقتدي به. تعذيب القديس يسطس ولما أثار الشيطان الاضطهاد على
المسيحيين سلم الراعي الغنم لوالد يعقوب ومضى ليستشهد. فطلب يعقوب من أبيه
أن يسير قليلاً مع الراعي ليودعه ثم يعود فسمح له بذلك. ولما مضى معه وجد
الوالي في الصعيد يعذب القديس يسطس ابن الملك نوماريوس فقال الشيخ ليعقوب:
"أنظر يا ولدى هذا الذي تراه يُعَذَب. إنه ابن ملك! قد ترك العالم وكل مجده
وتبع المسيح! فكم بالأحرى نحن المساكين، فتعزى ولا تحزن على فراق والديك".
استشهاد الشيخ وتعذيب يعقوب ثم تقدم الاثنان أمام الوالي واعترفا بالسيد
المسيح فعذبهما كثيرًا وقطع الوالي رأس الشيخ، أما القديس يعقوب فقد عذبه
عذابًا أليمًا بالضرب وبالسياط، ثم وضع على صدره قطعة حديد كالبلاطة محماة
في النار. فرفع القديس عينيه واستغاث بالسيد المسيح، فأنقذه وشفاه من
آلامه. ثم عادوا فوضعوه في جوال وطرحوه في البحر، فأصعده ملاك الرب، وعاد
ووقف أمام الوالي الذي أرسله إلى الفرما، وهناك عذّبه الوالي وقطع لسانه
وقلع عينه وعصره بالهنبازين ثم مشّط لحمه فنزل ملاك الرب سوريال وأنقذه.
استشهاده ولما حار الوالي في تعذيبه أمر بقطع رأسه مع شهيدين آخرين يدعيان
إبراهيم ويوحنا من سمنود، فنالوا جميعًا إكليل الشهادة.
موسوعة تاريخ الأقباط: الجزء 11 الكتاب الخامس، صفحة 202. السنكسار، 17 مسرى
شورة الصبي الشهيد
راعي للغنم كان هذا الصبي من قرية تدعى طناي وكان مقيمًا ببلدة شنشيف تبع
مدينة إخميم، وكان راعيًا للغنم. لما وصل إريانوس الوالي إلى إخميم، أرسل
جنوده إلى كل مجاوراتها ليحضروا إليه المسيحيين لتنفيذ مراسيم دقلديانوس.
توجّه خمسة منهم إلى شنشيف فالتقوا بالفتى شورة وهو يرعى غنمه، فسألوه: "من
أنت؟" أجابهم: "أنا مسيحي". فأسرعوا خلفه ليقبضوا عليه لكنه تمكّن من
الهروب، فاغتصبوا خروفين من الغنم وحملوها على خيولهم، أما هو فرجع إليهم
بعصاه واسترد الخروفين. استدعاؤه أمام إريانا ولما عادوا إلى إخميم أخبروا
الوالي بهذه القصة، فأرسل الوالي وأحضر حاكم شنشيف وهدّده بالموت إن لم
يُحضر هذا الصبي الراعي. خرج الحاكم وجمع رؤساء البلدة وعرّفهم بما جرى،
فخافوا لئلا يخرب إريانوس بلدتهم، فأمسكوا شورة وأوثقوه وأتوا به إلى
إخميم، فطرحه الوالي في السجن حتى الصباح. وفي السجن وجد جماعة من
المسيحيين مقبوضًا عليهم فشجّعوه. في الغد قُدّم الصبي ليُمثل أمام الوالي،
فسأله: "ما اسمك؟" أجابه: "أنا راعي مسيحي من أهل طناي وساكن بشنشيف واسمي
شورة". وبعد حوار لم يطل طلب إليه أن يرفع بخورًا للآلهة، أما هو فكان
ردّه: "سوف لا أسمع لك، ومهما أردت اصنع بي عاجلاً". تعذيبه إزاء هذه
الجسارة أمر الوالي بتعذيبه، فرفعوه على الهنبازين وعصروه، وأوقدوا نارًا
تحت قدميه وسلّطوا مشاعل نحو جنبيه، ووجّهوا نارًا إلى رأسه. وكان الوالي
يظن أنه قد مات، فلما علم أنه حيّ أمر أن يُصب خلّ وملح على جراحاته، أما
هو فكان يحتمل بشكر وشجاعة. ثم أعادوه إلى السجن، ووقف يصلي، فظهر له ملاك
الرب وعزّاه وشجّعه وأنبأه أنه سيتوجّه في اليوم التالي بإكليل المجد. عجز
الساحر أمامه في اليوم التالي أحضر الوالي ساحرًا وطلب إليه أن يفسد سحر
شورة المسيحي. فأجاب بجسارة: "أنا أحل سحره وأفضحه". ثم أعدّ الساحر كأس
السمّ، وناولها للصبي ليشربها، فسقط الكأس من يده وانسكب ما فيه على الأرض،
فخرجت من الكأس أفاعي وسعت نحو الصبي، أما هو فوطأها بقدميه. تعجب الساحر
مما رآه وقال للوالي: "ليس لي مع هذا الإنسان شأن لأنه قوي بإلهه".
استشهاده لما رأى الوالي ثبات الصبي شورة، أمر أن يُذبح كشاة ويعلّق على
سور قريته لتنهش لحمه طيور السماء. فنفّذ فيه الجند هذا الحكم،
ونال إكليل المجد في العاشر من شهر كيهك.
إستشهاد القديس ودامون الأرمنتي
أول شهيد في بلاد الصعيد
إستشهد القديس ودامون من مدينة أرمنت . كان في بيته ومعه ضيوف من عابدي
الأوثان . فقال بعضهم لبعض : " هوذا قد سمعنا أن امرأة وصلت إلى بلاد
الأشمونين ومعها طفل صغير
يشبه أولاد الملوك " وقال آخرون هل هذا الطفل جاء إلى البلاد المصرية ؟
وصار كل منهم يتحدث عن الصبي . فلما انصرف الضيوف نهض ودامون وركب دابته
ووصل مدينة الأشمونين ، ولما وصل أبصر الطفل يسوع مع مريم أمه سجد له .
فلما رآه الطفل تبسم في وجهه وقال له : " السلام لك يا ودامون . قد تعبت
وأتيت إلى هنا لتحقيق ما سمعت من حديث ضيوفك عني لذلك سأقيم عندك ويكون
بيتك مسكنا لي إلى الأبد " فاندهش القديس ودامون وقال : " يا سيدي أني
اشتهي أن تأتي إلى وتسكن في بيتي وأكون لك خادما إلى الأبد " فقال له الصبي
: " سيكون بيتك مسكنا لي ، أنا ووالدتي إلى الأبد لأنك إذا عدت من هنا
وسمع عابدو الأوثان أنك كنت عندنا يعز عليهم ذلك ويسفكون دمك في بيتك فلا
تخف لأني أقبلك عندي في ملكوت السموات إلى الأبد مكان الفرح الدائم الذي
ليس له انقضاء وأنت تكون أول شهيد في بلاد الصعيد . " فقام الرجل وسجد
للسيد المسيح فباركه ثم انصرف راجعا إلى بيته .
فلما عاد ودامون إلى أرمنت سمع عابدو الأوثان بوصوله وشاع الخبر في المدينة
أن ودامون زار يسوع . فجاءوا إليه مسرعين وقالوا : هل الكلام الذي يقولونه
عنك صحيح ؟ فقال لهم : " نعم أنا ذهبت إلى السيد المسيح باركني وقال لي :
أنا أتى وأحل في بيتك مع والدتي إلى الأبد " فصرخوا كلهم بصوت واحد وأشهروا
سيوفهم عليه . ونال إكليل الشهادة في مثل هذا اليوم .
ولما أبطلت عبادة الأوثان وانتشرت المسيحية في البلاد قام المسيحيون وجعلوا
بيته كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم وابنها الذي له المجد الدائم .
وهذه الكنيسة هي التي تسمى الجيوشنه وتفسيرها " كنيسة الحي " بظاهر أرمنت
وهي باقية إلى الآن
القدّيس البار أفلاطون
رئيس دير ساكوذيون(+ 814 م)
تيتّم إثر وفاة والدَيه بالطاعون الذي اجتاح القسطنطينية وضواحيها سنة 747
م. عمره، يومذاك، كان ثلاثة عشر عاماً. اُلحق بأحد أعمامه، وزير المالية في
الأمبراطورية. تلقّى تعليماً ممتازاً وأبدى قابليات مدهشة في إدارة الشؤون
العامة حتى إن العديدين من ذوي الرفعة التمسوا عشرته. أما هو فنفرت نفسه
من المعاشرات الدنيوية والأوساط المترفّهة وارتحل ذهنه إلى ناحية الكنائس
والأديرة أخذ يقصدها للصلاة كلّما سنحت له الفرصة. فلما بلغ به الوجد
الإلهي حدّه وخبا في عينيه كل بريق العالم، أطلق خدّامه ووزّع ثروته على
الفقراء، بعدما أمّن لأختَيه مهرهما، ووجّه طرْفه ناحية جبل الأوليمبوس في
بيثينيا مصحوباً بأحد خدّامه. فلما بلغا مغارة جعل خادمه يقصّ له شعره ثم
تبادل وإيّاه الأثواب وأطلقه وجاء إلى دير الرموز. أبدى، هناك، رئيس الدير،
ثيوكتيستوس، حياله تحفّظاً بعدما استعرفه واحداً من الارستقراطية، معتاداً
السيرة المخملية. لكنه ما لبث أن غيّر رأيه، لا سيما بعدما أخضعه للاختبار
واستبانت لناظريه أصالة محبّته لربّه وصلابة نفسه وشدّة عزمه وكمال زهده.
سنّه، يومذاك، كانت الرابعة والعشرين.
سلك أفلاطون في الطاعة الكاملة لأبيه الروحي مقتبلاً، ببركته، أشدّ الأتعاب
النسكية. على هذه الدرب مشى بخطى واثقة ثابتة، مخضعاً نوازع جسده لفكر
المسيح في قلبه، دائباً على الأسهار وسكب العبرات، معترشاً التواضع أساساً
لكل سعي. حَفِظَه كشفه لسرائر أفكاره، كل حين، من فخاخ شيطان الكبرياء،
فازداد رغبة في محاكاة تواضع المسيح. وإذ هجر مهنته المفضَّلة، وهي النسخ،
جعل نفسه في خدمة إخوته يتّخذ، إثر سؤالهم، أملَّ المهام وأمقتها، كنقل
الزبل وعرك العجين. وابتغاء تمحيصه كان ثيوكتيستوس، أحياناً، يتّهمه،
زوراً، في محضر الغرباء، بفعلة أو بأخرى وينتهره بقسوة لارتكابه ما هو براء
منه. بإزاء ذلك كان أفلاطون يطأطئ رأسه ويسأل العفو دامعاً، غير مبرِّر
نفسه بكلمة لأنه كان يحسب الإهانات والتعيير كسباً ومجداً.
فضائله أفاضت عليه محبّة أبيه وسائر السالكين في مخافة الله حتى إنه قبل
مرغماً أن يرأس الدير بعد رحيل ثيوكتيستوس إلى ربّه. ارتقاء سدَّة الرئاسة
كان، لأفلاطون مناسبة لإحراز المزيد من التقدّم الروحي. فأقام على حدة، لا
سيما وأن بعضاً من دير الرموز كان لافرا. واللافرا، في الأصل، قلال تتصل
بممر. أخذ يقتات من البقول النيء طوال الأسبوع ولا يأخذ نصيباً من المائدة
المشتركة إلا في الآحاد. كان على اعتدال كبير في الشراب، لا يأخذ من الماء
سوى نصيب كل يومين، وأحياناً مرّتين في الأسبوع. كما كان يسوس القطيع بحكمة
مبدياً، في الصلاة، أعظم الحميّة، وكان يدفع الرهبان صعداً إلى جبل
المعاينة الإلهية. كل وقت كان فيه خلواً من الصلاة كان يملأه من النسخ بخط
دقيق جميل لكتابات الآباء القدّيسين. هذا أكسبه معرفة فذّة بتراث الكنيسة
وألهمه مبادئ الإصلاح الرهباني التي دعت إليها الحاجة إثر الفوضى التي
ترافقت وفترة العداء للإيقونات.
وكان في زمن حملة الأمبراطور قسطنطين الخامس، الزبلي الإسم، عام 780م، أن
أفلاطون قام بزيارة القسطنطينية فاستقبله أنسباؤه كالناهض من بين الأموات.
مسحته النسكية وعذوبته ونعمة كلامه المشبع بالنسغ الإنجيلي جعلته موضع
اهتمام المدينة بأسرها. يومذاك كان الكلّ للكلّ نظير رسول جديد، يصلح
الساقطين في مهاوي الهرطقة ويبثّ روح العفّة في المتزوّجين ويعظ الفتية إلى
العذرة ويعزّي المكروبين ويضع السلام فيما بين المتخاصمين، مقدِّماً نفسه
طبيباً للنفوس وعشيراً لمَن هم في سدّة المسؤولية، باعثاً في الجميع الرغبة
في الكمال. على هذا اجتذب إلى الحياة النسكية شقيقته ثيوكتيستي وزوجها
فوتينوس وأولادهما الثلاثة: ثيودوروس ويوسف وأفثيميوس مع أختهم، وكذا إخوة
فوتينوس وآخرين أصدقاء لهم. وبعدما اعتذر عن رئاسة أحد ديورة العاصمة
وامتنع عن قبول أسقفية نيقوميذية، اعتزل وإيّاهم في ناحية ساكوذيون
العائلية فحوّلوها ديراً شركوياً. قام الدير الجديد على أسس متينة تمتّ إلى
تراث الآباء القدّيسين وضمّ، في فترة قصيرة، مائة راهب. وقد أضحى نموذجاً
للعديد من الأديرة في زمانه.
سلك الإخوة في الشركة متّحدين، بعمق، برئيسهم، نظير أعضاء الجسد بالرأس.
غيرأن قلب أفلاطون كان إلى العزلة الكاملة. فلما لحظ المزايا الفائقة التي
تمتّع بها القدّيس ثيودوروس – وهو الذي صار على ستوديون فيما بعد وعُرف
بالستوديتي (11 تشرين الثاني) – وبعدما أعدّه للقيادة، أسلمه دفّة الشركة
متعلِّلاً بعلّة المرض واعتزل (794 م).
غير أن حبل السلام في الدير اضطرب وتعرّض الرهبان للاضطهاد إثر الموقف الذي
تبنّاه أفلاطون وثيودوروس في شأن اقتران الأمبراطور قسطنطين السادس، بصورة
غير شرعية، بثيودوتا، إحدى وصيفات الأم الملكة ونسيبة أفلاطون وثيودوروس.
نبذ القدّيسان كل خوف من الناس وتعرّضا للأمبراطور لأنه تجاسر فتجاهل
القوانين الكنسية وحرمتها. وقد استدعى الملك القدّيس أفلاطون إلى
القسطنطينية وضغط عليه لحمله على الرضوخ لمشيئته، فكان جوابه، نظير معمدان
جديد، أن صرخ في وجه الأمبراطور: "لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك!" (مر 6:
18). للحال أُوقف وأُلقي في حبس ضيِّق وصاروا يمرِّرون له طعامه عبر نافذة
صغيرة. أما رهبان ساكوذيون فتبعثروا ونُهب الدير فيما نُفي القدّيس
ثيودوروس وأحد عشر معه إلى تسالونيكي.
ومرّ وقت جرى بعده تغيير في القصر أُطيح خلاله بقسطنطين السادس وقبضت
الأمبراطورة إيريني على زمام الأمور فأطلقت أفلاطون وردّت ثيودوروس من
المنفى، فعاد الرهبان إلى ساكوذيون عام 797 م. لكنهم ما لبثوا، تحت تهديد
غزوات المسلمين العرب، أن غادروا الدير إلى القسطنطينية حيث قدّمت لهم
الأمبراطورة دير ستوديون الذي كان قد حلّ به الخراب خلال الهجمة على
الإيقونات. ثيودوروس، هناك، هو الذي تولّى الشركة فيما اعتزل أفلاطون في
قلاّية مغطّاة بالرصاص، متجمّدة في الشتاء ومحرقة، كآتون بابل، في الصيف.
هذا الكوخ المظلم أضحى لقدّيس الله مرسحاً لمعارك مضاعفة. فإنه جعل في رجله
سلسلة ثقيلة فيما انطلقت روحه، بالمعاينة الإلهية، في رحاب السماء. هذا لم
يحل البتّة دون اتصاله بالإخوة الذين كان يستقبلهم معزّياً في المحن
ومشدِّداً في ساحات الحرب اللامنظورة، داعياً إيّاهم إلى الصبر والثبات،
ومفقِّهاً في تعليم الآباء القدّيسين.
كان أفلاطون وثيودوروس لرهبان دير ستوديون نظير موسى وهرون لشعب العهد
القديم. وقد أبديا حيال تقليد الكنيسة المقدّسة غيرة لا تخبو. على هذا
قاوما، باسم القوانين الكنسية، ترقية القدّيس نيقيفوروس، من الحالة العامية
إلى الرتبة البطريركية. من جديد أخرجهما الجند الملكي، بعنف، من الدير،
وعرّضهما لاضطهادات شرسة على مدى سنة كاملة. وإنّ مجمعاً للأساقفة الخاضعين
للأمبراطور أدان القدّيس أفلاطون الذي أُسلم إلى رهبان مزيّفين وأُخرج
بطريقة محقِّرة إلى جزيرة أوكسيا في أرخبيل الأمراء حيث أغلقوا عليه في حبس
ومنعوا عنه العناية الصحيّة الضرورية، لا سيما وأن وضعه الصحّي كان في
تردٍّ.
ومرّة أخرى حدث تغيير في الحكم، بعدما قُتل الأمبراطور نيقيفوروس الأول في
معركة ضد البلغار، وتبوّأ العرش ميخائيل الأول. فعاد المنفيّون إلى ديرهم،
لكن أفلاطون لم يعد إلى خلوته بل اتّخذ قلاّية خضع فيها للعلاج بعدما أضنت
جسده كثرة الأتعاب. هذا لم يُعق صلاته المتواصلة ولا تمتّعه بالمعاينة
الإلهية، ولمّا يحل دون تواصله ورهبان الشركة يزوّدهم بنصائحه.
فلمّا كان الصوم الكبير من العام 814 م مرض مرضاً شديداً فنُقل، بناء
لطلبه، ليكون بقرب مدفنه الذي أمر بإعداده سلفاً. فلمّا وقعت عليه عيناه
هتف بارتياح: "هذا موضع راحتي!" وجاءه زائراً عددٌ من ذوي المعالي بينهم
البطريرك نيقيفوروس الذي تصالح وإيّاه عن محبّة خالصة. وبعد أن غفر لمَن
اضطهدوه أفعالهم، نظير معلّمه، وعبّر لثيودوروس ورهبانه أنه لا يحتفظ لنفسه
بعد بأي شيء بل أعطاهم كل شيء، أسلم الروح لربّه يوم سبت لعازر وهو ينشد:
"الموتى يرتفعون والذين في القبور يقومون والذين وُوروا الثرى يبتهجون".
ملاحظة . كتب سيرة حياة القدّيس أفلاطون ابن أخته القدّيس ثيودوروس الستوديتي. يُعيِّد له الغربيون مثلنا
سوف انقل لكم سيرة عطرة للعديد من القديسين والشهداء الأبرار الذي كثير منا لا يعرفهم
تابع معي لنأخذ بركتهم وشفاعتهم لأنهم نجوم في السماء
القديسة ديونيزيا
وفي زمان الاضطهاد الذي أثاره ديسيوس ، وفي سنة 250 في مدينة تراوس بآسيا
الصغرى ، قدم للوالي ثلاثة من المسيحيين ، كان أكبرهم شخص يدعى نيكوماكس
فأعترف بإيمانه في بادئ الأمر ورفض أن يقدم قربانا للآلهة ، فبدأوا يعذبونه
، فلما برح به الآم صاح "إنني مخطئ ، ما كنت مسيحيا قط ، سوف أقدم
القرابين للآلهة" وأنزل من آلة التعذيب ، ولم يكد يضع لحم الضحية على شفتيه
حتى قضى نحبه ، ومات جاحدا .
وكانت هناك فتاة في نحو السادسة عشر تدعى ديونيزيا ، وكانت الفتاة مسيحية ،
وإذ روعها هذا المنظر صاحت " أيها البائس المسكين ، من أجل لحظة قصيرة ،
نلت ألاماً أبدية لا توصف" ، فسيقت أما الوالي ولما سألها عما إذا كانت
مسيحية ، أجابت "نعم ، ولهذا فقد تملكني الأسى على ذلك المسكين الذي لم
يستطع أن يتحمل قليلاً فيجد راحة أبدية" ، فأمرها أن تحذو حذوه ، وإلا
فإنها ستعذب ثم تحرق حية .
وفي اليوم التالي جئ بأندراوس وبولس – رفيقي نيكومكس ، أمام القاضي ، ورأي
الوالي أن يسلمهما للجمهور ليرجمهما حتى الموت ، فأوثقت أقدامهما معا وأخذا
خارج المدينة ، وحدث أن رأتهما ديونيزيا – وكانت في طريقها إلى حيث تتلقى
الحكم النهائي عليها ، فأفلتت من حارسها وألقت بنفسها على اندراوس وبولس
قائلة " فلأمت معكما على الأرض ، حتى أحيا معكما في السماء" ولم يشأ الوالي
أن يجيبها إلى ما طلبت وأمر بأن تبتر رأسها .
يعقوب الصبي الشهيد
وُلد هذا القديس في أمجوج من أبوين مسيحيين خائفين الرب، وقد رزقهما الله
ثلاث بنات قبل هذا القديس، فأدخلهن دير راهبات ليتعلمن ويتربين في خوف
الرب، فتعلمن وقرأن الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة. لما طلب أبيهن عودتهن
لم يوافقنّه وبقين في ذلك الدير وقدمن أنفسهن للمسيح. فحزن الوالدان كثيرًا
غير أن الله قد عزاهما بأن رزقهما بهذا القديس ففرحا به فرحًا عظيمًا،
ولما بلغ السادسة من عمره أرسله أبوه إلى أبسو حيث تلقى مبادئ التعليم
القراءة والكتابة، ولما تعلمها عيّنه أبوه مشرفًا على ماله. نشأته كان عند
أبيه شيخ يرعى غنمه، وكان زاهدًا تقيًا يجاهد كثيرًا في اقتناء الفضائل،
وكان يعقوب يقتدي به. تعذيب القديس يسطس ولما أثار الشيطان الاضطهاد على
المسيحيين سلم الراعي الغنم لوالد يعقوب ومضى ليستشهد. فطلب يعقوب من أبيه
أن يسير قليلاً مع الراعي ليودعه ثم يعود فسمح له بذلك. ولما مضى معه وجد
الوالي في الصعيد يعذب القديس يسطس ابن الملك نوماريوس فقال الشيخ ليعقوب:
"أنظر يا ولدى هذا الذي تراه يُعَذَب. إنه ابن ملك! قد ترك العالم وكل مجده
وتبع المسيح! فكم بالأحرى نحن المساكين، فتعزى ولا تحزن على فراق والديك".
استشهاد الشيخ وتعذيب يعقوب ثم تقدم الاثنان أمام الوالي واعترفا بالسيد
المسيح فعذبهما كثيرًا وقطع الوالي رأس الشيخ، أما القديس يعقوب فقد عذبه
عذابًا أليمًا بالضرب وبالسياط، ثم وضع على صدره قطعة حديد كالبلاطة محماة
في النار. فرفع القديس عينيه واستغاث بالسيد المسيح، فأنقذه وشفاه من
آلامه. ثم عادوا فوضعوه في جوال وطرحوه في البحر، فأصعده ملاك الرب، وعاد
ووقف أمام الوالي الذي أرسله إلى الفرما، وهناك عذّبه الوالي وقطع لسانه
وقلع عينه وعصره بالهنبازين ثم مشّط لحمه فنزل ملاك الرب سوريال وأنقذه.
استشهاده ولما حار الوالي في تعذيبه أمر بقطع رأسه مع شهيدين آخرين يدعيان
إبراهيم ويوحنا من سمنود، فنالوا جميعًا إكليل الشهادة.
موسوعة تاريخ الأقباط: الجزء 11 الكتاب الخامس، صفحة 202. السنكسار، 17 مسرى
شورة الصبي الشهيد
راعي للغنم كان هذا الصبي من قرية تدعى طناي وكان مقيمًا ببلدة شنشيف تبع
مدينة إخميم، وكان راعيًا للغنم. لما وصل إريانوس الوالي إلى إخميم، أرسل
جنوده إلى كل مجاوراتها ليحضروا إليه المسيحيين لتنفيذ مراسيم دقلديانوس.
توجّه خمسة منهم إلى شنشيف فالتقوا بالفتى شورة وهو يرعى غنمه، فسألوه: "من
أنت؟" أجابهم: "أنا مسيحي". فأسرعوا خلفه ليقبضوا عليه لكنه تمكّن من
الهروب، فاغتصبوا خروفين من الغنم وحملوها على خيولهم، أما هو فرجع إليهم
بعصاه واسترد الخروفين. استدعاؤه أمام إريانا ولما عادوا إلى إخميم أخبروا
الوالي بهذه القصة، فأرسل الوالي وأحضر حاكم شنشيف وهدّده بالموت إن لم
يُحضر هذا الصبي الراعي. خرج الحاكم وجمع رؤساء البلدة وعرّفهم بما جرى،
فخافوا لئلا يخرب إريانوس بلدتهم، فأمسكوا شورة وأوثقوه وأتوا به إلى
إخميم، فطرحه الوالي في السجن حتى الصباح. وفي السجن وجد جماعة من
المسيحيين مقبوضًا عليهم فشجّعوه. في الغد قُدّم الصبي ليُمثل أمام الوالي،
فسأله: "ما اسمك؟" أجابه: "أنا راعي مسيحي من أهل طناي وساكن بشنشيف واسمي
شورة". وبعد حوار لم يطل طلب إليه أن يرفع بخورًا للآلهة، أما هو فكان
ردّه: "سوف لا أسمع لك، ومهما أردت اصنع بي عاجلاً". تعذيبه إزاء هذه
الجسارة أمر الوالي بتعذيبه، فرفعوه على الهنبازين وعصروه، وأوقدوا نارًا
تحت قدميه وسلّطوا مشاعل نحو جنبيه، ووجّهوا نارًا إلى رأسه. وكان الوالي
يظن أنه قد مات، فلما علم أنه حيّ أمر أن يُصب خلّ وملح على جراحاته، أما
هو فكان يحتمل بشكر وشجاعة. ثم أعادوه إلى السجن، ووقف يصلي، فظهر له ملاك
الرب وعزّاه وشجّعه وأنبأه أنه سيتوجّه في اليوم التالي بإكليل المجد. عجز
الساحر أمامه في اليوم التالي أحضر الوالي ساحرًا وطلب إليه أن يفسد سحر
شورة المسيحي. فأجاب بجسارة: "أنا أحل سحره وأفضحه". ثم أعدّ الساحر كأس
السمّ، وناولها للصبي ليشربها، فسقط الكأس من يده وانسكب ما فيه على الأرض،
فخرجت من الكأس أفاعي وسعت نحو الصبي، أما هو فوطأها بقدميه. تعجب الساحر
مما رآه وقال للوالي: "ليس لي مع هذا الإنسان شأن لأنه قوي بإلهه".
استشهاده لما رأى الوالي ثبات الصبي شورة، أمر أن يُذبح كشاة ويعلّق على
سور قريته لتنهش لحمه طيور السماء. فنفّذ فيه الجند هذا الحكم،
ونال إكليل المجد في العاشر من شهر كيهك.
إستشهاد القديس ودامون الأرمنتي
أول شهيد في بلاد الصعيد
إستشهد القديس ودامون من مدينة أرمنت . كان في بيته ومعه ضيوف من عابدي
الأوثان . فقال بعضهم لبعض : " هوذا قد سمعنا أن امرأة وصلت إلى بلاد
الأشمونين ومعها طفل صغير
يشبه أولاد الملوك " وقال آخرون هل هذا الطفل جاء إلى البلاد المصرية ؟
وصار كل منهم يتحدث عن الصبي . فلما انصرف الضيوف نهض ودامون وركب دابته
ووصل مدينة الأشمونين ، ولما وصل أبصر الطفل يسوع مع مريم أمه سجد له .
فلما رآه الطفل تبسم في وجهه وقال له : " السلام لك يا ودامون . قد تعبت
وأتيت إلى هنا لتحقيق ما سمعت من حديث ضيوفك عني لذلك سأقيم عندك ويكون
بيتك مسكنا لي إلى الأبد " فاندهش القديس ودامون وقال : " يا سيدي أني
اشتهي أن تأتي إلى وتسكن في بيتي وأكون لك خادما إلى الأبد " فقال له الصبي
: " سيكون بيتك مسكنا لي ، أنا ووالدتي إلى الأبد لأنك إذا عدت من هنا
وسمع عابدو الأوثان أنك كنت عندنا يعز عليهم ذلك ويسفكون دمك في بيتك فلا
تخف لأني أقبلك عندي في ملكوت السموات إلى الأبد مكان الفرح الدائم الذي
ليس له انقضاء وأنت تكون أول شهيد في بلاد الصعيد . " فقام الرجل وسجد
للسيد المسيح فباركه ثم انصرف راجعا إلى بيته .
فلما عاد ودامون إلى أرمنت سمع عابدو الأوثان بوصوله وشاع الخبر في المدينة
أن ودامون زار يسوع . فجاءوا إليه مسرعين وقالوا : هل الكلام الذي يقولونه
عنك صحيح ؟ فقال لهم : " نعم أنا ذهبت إلى السيد المسيح باركني وقال لي :
أنا أتى وأحل في بيتك مع والدتي إلى الأبد " فصرخوا كلهم بصوت واحد وأشهروا
سيوفهم عليه . ونال إكليل الشهادة في مثل هذا اليوم .
ولما أبطلت عبادة الأوثان وانتشرت المسيحية في البلاد قام المسيحيون وجعلوا
بيته كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم وابنها الذي له المجد الدائم .
وهذه الكنيسة هي التي تسمى الجيوشنه وتفسيرها " كنيسة الحي " بظاهر أرمنت
وهي باقية إلى الآن
القدّيس البار أفلاطون
رئيس دير ساكوذيون(+ 814 م)
تيتّم إثر وفاة والدَيه بالطاعون الذي اجتاح القسطنطينية وضواحيها سنة 747
م. عمره، يومذاك، كان ثلاثة عشر عاماً. اُلحق بأحد أعمامه، وزير المالية في
الأمبراطورية. تلقّى تعليماً ممتازاً وأبدى قابليات مدهشة في إدارة الشؤون
العامة حتى إن العديدين من ذوي الرفعة التمسوا عشرته. أما هو فنفرت نفسه
من المعاشرات الدنيوية والأوساط المترفّهة وارتحل ذهنه إلى ناحية الكنائس
والأديرة أخذ يقصدها للصلاة كلّما سنحت له الفرصة. فلما بلغ به الوجد
الإلهي حدّه وخبا في عينيه كل بريق العالم، أطلق خدّامه ووزّع ثروته على
الفقراء، بعدما أمّن لأختَيه مهرهما، ووجّه طرْفه ناحية جبل الأوليمبوس في
بيثينيا مصحوباً بأحد خدّامه. فلما بلغا مغارة جعل خادمه يقصّ له شعره ثم
تبادل وإيّاه الأثواب وأطلقه وجاء إلى دير الرموز. أبدى، هناك، رئيس الدير،
ثيوكتيستوس، حياله تحفّظاً بعدما استعرفه واحداً من الارستقراطية، معتاداً
السيرة المخملية. لكنه ما لبث أن غيّر رأيه، لا سيما بعدما أخضعه للاختبار
واستبانت لناظريه أصالة محبّته لربّه وصلابة نفسه وشدّة عزمه وكمال زهده.
سنّه، يومذاك، كانت الرابعة والعشرين.
سلك أفلاطون في الطاعة الكاملة لأبيه الروحي مقتبلاً، ببركته، أشدّ الأتعاب
النسكية. على هذه الدرب مشى بخطى واثقة ثابتة، مخضعاً نوازع جسده لفكر
المسيح في قلبه، دائباً على الأسهار وسكب العبرات، معترشاً التواضع أساساً
لكل سعي. حَفِظَه كشفه لسرائر أفكاره، كل حين، من فخاخ شيطان الكبرياء،
فازداد رغبة في محاكاة تواضع المسيح. وإذ هجر مهنته المفضَّلة، وهي النسخ،
جعل نفسه في خدمة إخوته يتّخذ، إثر سؤالهم، أملَّ المهام وأمقتها، كنقل
الزبل وعرك العجين. وابتغاء تمحيصه كان ثيوكتيستوس، أحياناً، يتّهمه،
زوراً، في محضر الغرباء، بفعلة أو بأخرى وينتهره بقسوة لارتكابه ما هو براء
منه. بإزاء ذلك كان أفلاطون يطأطئ رأسه ويسأل العفو دامعاً، غير مبرِّر
نفسه بكلمة لأنه كان يحسب الإهانات والتعيير كسباً ومجداً.
فضائله أفاضت عليه محبّة أبيه وسائر السالكين في مخافة الله حتى إنه قبل
مرغماً أن يرأس الدير بعد رحيل ثيوكتيستوس إلى ربّه. ارتقاء سدَّة الرئاسة
كان، لأفلاطون مناسبة لإحراز المزيد من التقدّم الروحي. فأقام على حدة، لا
سيما وأن بعضاً من دير الرموز كان لافرا. واللافرا، في الأصل، قلال تتصل
بممر. أخذ يقتات من البقول النيء طوال الأسبوع ولا يأخذ نصيباً من المائدة
المشتركة إلا في الآحاد. كان على اعتدال كبير في الشراب، لا يأخذ من الماء
سوى نصيب كل يومين، وأحياناً مرّتين في الأسبوع. كما كان يسوس القطيع بحكمة
مبدياً، في الصلاة، أعظم الحميّة، وكان يدفع الرهبان صعداً إلى جبل
المعاينة الإلهية. كل وقت كان فيه خلواً من الصلاة كان يملأه من النسخ بخط
دقيق جميل لكتابات الآباء القدّيسين. هذا أكسبه معرفة فذّة بتراث الكنيسة
وألهمه مبادئ الإصلاح الرهباني التي دعت إليها الحاجة إثر الفوضى التي
ترافقت وفترة العداء للإيقونات.
وكان في زمن حملة الأمبراطور قسطنطين الخامس، الزبلي الإسم، عام 780م، أن
أفلاطون قام بزيارة القسطنطينية فاستقبله أنسباؤه كالناهض من بين الأموات.
مسحته النسكية وعذوبته ونعمة كلامه المشبع بالنسغ الإنجيلي جعلته موضع
اهتمام المدينة بأسرها. يومذاك كان الكلّ للكلّ نظير رسول جديد، يصلح
الساقطين في مهاوي الهرطقة ويبثّ روح العفّة في المتزوّجين ويعظ الفتية إلى
العذرة ويعزّي المكروبين ويضع السلام فيما بين المتخاصمين، مقدِّماً نفسه
طبيباً للنفوس وعشيراً لمَن هم في سدّة المسؤولية، باعثاً في الجميع الرغبة
في الكمال. على هذا اجتذب إلى الحياة النسكية شقيقته ثيوكتيستي وزوجها
فوتينوس وأولادهما الثلاثة: ثيودوروس ويوسف وأفثيميوس مع أختهم، وكذا إخوة
فوتينوس وآخرين أصدقاء لهم. وبعدما اعتذر عن رئاسة أحد ديورة العاصمة
وامتنع عن قبول أسقفية نيقوميذية، اعتزل وإيّاهم في ناحية ساكوذيون
العائلية فحوّلوها ديراً شركوياً. قام الدير الجديد على أسس متينة تمتّ إلى
تراث الآباء القدّيسين وضمّ، في فترة قصيرة، مائة راهب. وقد أضحى نموذجاً
للعديد من الأديرة في زمانه.
سلك الإخوة في الشركة متّحدين، بعمق، برئيسهم، نظير أعضاء الجسد بالرأس.
غيرأن قلب أفلاطون كان إلى العزلة الكاملة. فلما لحظ المزايا الفائقة التي
تمتّع بها القدّيس ثيودوروس – وهو الذي صار على ستوديون فيما بعد وعُرف
بالستوديتي (11 تشرين الثاني) – وبعدما أعدّه للقيادة، أسلمه دفّة الشركة
متعلِّلاً بعلّة المرض واعتزل (794 م).
غير أن حبل السلام في الدير اضطرب وتعرّض الرهبان للاضطهاد إثر الموقف الذي
تبنّاه أفلاطون وثيودوروس في شأن اقتران الأمبراطور قسطنطين السادس، بصورة
غير شرعية، بثيودوتا، إحدى وصيفات الأم الملكة ونسيبة أفلاطون وثيودوروس.
نبذ القدّيسان كل خوف من الناس وتعرّضا للأمبراطور لأنه تجاسر فتجاهل
القوانين الكنسية وحرمتها. وقد استدعى الملك القدّيس أفلاطون إلى
القسطنطينية وضغط عليه لحمله على الرضوخ لمشيئته، فكان جوابه، نظير معمدان
جديد، أن صرخ في وجه الأمبراطور: "لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك!" (مر 6:
18). للحال أُوقف وأُلقي في حبس ضيِّق وصاروا يمرِّرون له طعامه عبر نافذة
صغيرة. أما رهبان ساكوذيون فتبعثروا ونُهب الدير فيما نُفي القدّيس
ثيودوروس وأحد عشر معه إلى تسالونيكي.
ومرّ وقت جرى بعده تغيير في القصر أُطيح خلاله بقسطنطين السادس وقبضت
الأمبراطورة إيريني على زمام الأمور فأطلقت أفلاطون وردّت ثيودوروس من
المنفى، فعاد الرهبان إلى ساكوذيون عام 797 م. لكنهم ما لبثوا، تحت تهديد
غزوات المسلمين العرب، أن غادروا الدير إلى القسطنطينية حيث قدّمت لهم
الأمبراطورة دير ستوديون الذي كان قد حلّ به الخراب خلال الهجمة على
الإيقونات. ثيودوروس، هناك، هو الذي تولّى الشركة فيما اعتزل أفلاطون في
قلاّية مغطّاة بالرصاص، متجمّدة في الشتاء ومحرقة، كآتون بابل، في الصيف.
هذا الكوخ المظلم أضحى لقدّيس الله مرسحاً لمعارك مضاعفة. فإنه جعل في رجله
سلسلة ثقيلة فيما انطلقت روحه، بالمعاينة الإلهية، في رحاب السماء. هذا لم
يحل البتّة دون اتصاله بالإخوة الذين كان يستقبلهم معزّياً في المحن
ومشدِّداً في ساحات الحرب اللامنظورة، داعياً إيّاهم إلى الصبر والثبات،
ومفقِّهاً في تعليم الآباء القدّيسين.
كان أفلاطون وثيودوروس لرهبان دير ستوديون نظير موسى وهرون لشعب العهد
القديم. وقد أبديا حيال تقليد الكنيسة المقدّسة غيرة لا تخبو. على هذا
قاوما، باسم القوانين الكنسية، ترقية القدّيس نيقيفوروس، من الحالة العامية
إلى الرتبة البطريركية. من جديد أخرجهما الجند الملكي، بعنف، من الدير،
وعرّضهما لاضطهادات شرسة على مدى سنة كاملة. وإنّ مجمعاً للأساقفة الخاضعين
للأمبراطور أدان القدّيس أفلاطون الذي أُسلم إلى رهبان مزيّفين وأُخرج
بطريقة محقِّرة إلى جزيرة أوكسيا في أرخبيل الأمراء حيث أغلقوا عليه في حبس
ومنعوا عنه العناية الصحيّة الضرورية، لا سيما وأن وضعه الصحّي كان في
تردٍّ.
ومرّة أخرى حدث تغيير في الحكم، بعدما قُتل الأمبراطور نيقيفوروس الأول في
معركة ضد البلغار، وتبوّأ العرش ميخائيل الأول. فعاد المنفيّون إلى ديرهم،
لكن أفلاطون لم يعد إلى خلوته بل اتّخذ قلاّية خضع فيها للعلاج بعدما أضنت
جسده كثرة الأتعاب. هذا لم يُعق صلاته المتواصلة ولا تمتّعه بالمعاينة
الإلهية، ولمّا يحل دون تواصله ورهبان الشركة يزوّدهم بنصائحه.
فلمّا كان الصوم الكبير من العام 814 م مرض مرضاً شديداً فنُقل، بناء
لطلبه، ليكون بقرب مدفنه الذي أمر بإعداده سلفاً. فلمّا وقعت عليه عيناه
هتف بارتياح: "هذا موضع راحتي!" وجاءه زائراً عددٌ من ذوي المعالي بينهم
البطريرك نيقيفوروس الذي تصالح وإيّاه عن محبّة خالصة. وبعد أن غفر لمَن
اضطهدوه أفعالهم، نظير معلّمه، وعبّر لثيودوروس ورهبانه أنه لا يحتفظ لنفسه
بعد بأي شيء بل أعطاهم كل شيء، أسلم الروح لربّه يوم سبت لعازر وهو ينشد:
"الموتى يرتفعون والذين في القبور يقومون والذين وُوروا الثرى يبتهجون".
ملاحظة . كتب سيرة حياة القدّيس أفلاطون ابن أخته القدّيس ثيودوروس الستوديتي. يُعيِّد له الغربيون مثلنا